بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه واتبع هداه، وبعد
أيها الزملاء الكرام، مرحبا بكم إلى هذا الموقع، الذي أسأل الله أن ينتفع به القارئ العزيز وأسأل الله أن يتبقل صالح أعمالنا إن شاء الله. هنا أتيت بمقالة رائعة من أحد كبارعلماء العالم وهو الشيخ الدكتور أحمد الريسوني المالكي الأصولي المالكي، من البارزين في علم المقاصد وله مؤلفات عدة المعروفة. منذ أنا في المغرب كنت أحب هذا الشيخ وآراءه ومؤلفاته، حتى العلماء المغاربة أيضا أثنوا عليه وهو مشهور جدا للتعريف. المهم، هذه المقالة تحت عنوان المذكور، فيه نقاط وفوائد جمة تجعلنا ننظر إلى قرآن وهو مصدر أول للشرع بنظرة أوسع، ويعلمنا كيف نفهم النصوص وحقائق وراءها التي لا يدركها إلا الراسخون. وإليكم هذه المقالة تم نقله من موقع المساء عبر موقع جريدة الشاوية بريس.
يقال: إن القرآن نزل بمكة، وطُبق بالمدينة، وحُفظ بالمغرب، وجُود ورُتل بمصر، وكُتب وخُطِّط بتركيا. في هذا القول إشارة تقريبية إلى ما امتازت به كل جهة من مزايا في حق القرآن الكريم.
فمكةُ المكرمة حظيت بشرف نزوله الأول فيها، وهو نزول إجمالي للكتاب العزيز، ثم نزلت سوره الأولى في جبالها وشعابها.
وأما المدينة المنورة فكان لها شرف التطبيق العملي للقرآن، ففيها قام مجتمع القرآن، وفيها تأسست دولة القرآن، فهي حاضنة الإسلام الأولى.
وأما المغرب فعُرف أهله بشدة إقبالهم على حفظ القرآن وإتقان حفظه، والحرص على تحفيظه، وسيستمرون في ذلك - بإذن الله - رغم الإغلاق الجائر والمتكرر الذي تقوم به وزارة الأوقاف لمراكز تحفيظه.
وأما الذين حازوا الريادة والإبداع في التجديد والترتيل فهم المصريون. ففيهم يظهر ويكثر المقرئون ومشاهير المقرئين المتفننين.
وأما الأتراك فقد تفننوا وتفوقوا خاصة في كتابة المصاحف وحُسنِ تخطيطها وزخرفتها.
وفي هذا العصر انتعشت واتسعت- بصفة خاصة - دائرة العناية بتجويد القرآن وترتيله، وأنشئت لهذا الغرض جمعيات ومراكز ومؤسسات، وبدأت تنظم له مسابقات حافلة، محلية وقُطْرية وعالمية. بل حتى "قناة دوزيم" المغربية - وهي المعروفة بلونها واتجاهها - دخلت وأسهمت بسهمها في هذا المجال، مشكورة على كل حال.
هذا عن التجويد والترتيل، وأما فهم القرآن وتدبره، فتأسست له مؤخرا (الهيئة العالمية لتدبر القرآن الكريم). وفي أواخر شهر شعبان المنصرم عقدت هذه الهيئة مؤتمرها العالمي الأول بقطر، وشارك فيه ستة وثمانون عالما وباحثا، من شتى أنحاء العالم. وقد صدرت عن المؤتمر عدة توصيات أذكر منها:
• إعداد خطة استراتيجية عملية؛ لتعزيز ثقافة تدبر القرآن في مجتمعات المسلمين على اختلاف لغاتهم.
• إنتاج برامج إعلامية متخصصة بالتدبر ودعمها، والاهتمام بشكل أخص بمواقع التواصل الاجتماعي.
• تصميم حقائب تدريبية متنوعة في مجال تدبر القرآن الكريم، والاستفادة في ذلك من خبراء التربية، ومراكز التدريب.
• الدعوة إلى إنشاء مراكز وجمعيات متخصصة في تدبر القرآن الكريم.
وكل هذا يدل على مكانة القرآن في نفوس المسلمين، ومدى تغلغله في قلوبهم، على اختلاف أعصارهم وأمصارهم.
ما أريد الوصول إليه هو أن علماء المسلمين - وعامتهم أيضا - الذين اعتنوا عناية بالغة بتجويد القرآن وترتيله، وأسسوا لذلك (علم التجويد)، وألَّفوا فيه عشرات الكتب، جدير بهم - بل أجدر بهم - أن يوجهوا عنايتهم أكثر فأكثر إلى تطبيق القرآن الكريم، وأن يؤسسوا لذلك (علم تجويد العمل بالقرآن)، أو تجويد العمل بالإسلام بصفة عامة. فتجويد القرآن وترتيله، وكذلك تدبره وتفسيره، ما هي إلا خطوات ومقدمات لأجل الوصول إلى الغاية العليا والغاية الحقيقية، التي هي العمل بالقرآن. فتجويد العمل وتحسينُه، يجب أن يحظى بعناية أكبر بكثير من العناية المخصصة لتجويد التلاوة وتصحيحِ مخارج الحروف.
وقد روى الإمامُ مالكٌ في موطئه قول الصحابي عبدِ الله بنِ مسعود رضي الله عنه لأحد تلاميذه: "إنك في زمان قليلٌ قُرَّاؤُه (أي أن حُفَّاظ القرآن قليلون يومئذ)، كثير فقهاؤه، يُحفظ فيه حدود القرآن، ويُضيع حروفُه، قليلٌ من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون فيه الصلاة، ويقصرون فيه الخطبة, يبدون فيه أعمالهم قبل أهوائهم. وسيأتي زمان,كثير قراؤه، قليل فقهاؤه، يُحفظ فيه حروف القرآن, ويُضَيَّع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون الخطبة، ويقصرون الصلاة، ويبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم".
وأنا الآن أتحدث عن "تجويد العمل" بالقرآن وبالإسلام، على غرار "تجويد التلاوة". فالمسلمون اليوم محتاجون إلى تجويد العمل، وليس فقط إلى العمل كيفما كان. فنحن عندنا عمل كثير وتدين وفير، ولكن كثيرا منه إنما هو غثاء كغثاء السيل. عندنا عمل منحط وتدين رديء، بينما القرآن يدعونا ويأمرنا بالإحسان في العمل، لا بمطلق العمل.
فالله تعالى يقول:
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]
{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]
وفي حديث جبريل الشهير: قال فأخبرني عن الإحسان؟ قال"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
فالمطلوب في هذه الآيات، وفي هذا الحديث، ليس العمل وحسب، بل الإحسان والرقي فيه، إلى درجة أن تقوم بعملك - كلِّ عملك - وكأنك ماثل بين يدي الله، تراه وترجو رضاه بعملك، وتخشى سخطه عليه.
و"الإحسان" ليس صفة تكميلية تطوعية، أو شوطا إضافيا اختياريا، من شاء عمل به ومن شاء تركه، كما يظن بعض الناس، بل هو عين العمل الذي يطلبه الشرع ويجازي عليه، كما تدل على ذلك الآيات السابقة، وكما هو صريحُ قولِه صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدَّ أحدكم شفرته فليُرح ذبيحته». فلا يوجد عمل ديني أو دنيوي إلا وقد كَتب اللهُ - أي أوجب - فيه الإحسان، أي: أن يؤدَّى على أحسن ما يرام وأحسن ما يمكن.
على أن الإحسان لا يعني السلامة التامة الدائمة من كل خطأ أو خطيئة أو خلل، فهذا غير وارد وغير مطلوب أصلا، بل المقصود هو أن الإحسان والتجويد في الأعمال، يكون هو النهج العام المتبع بحسب الاستطاعة والوسع. والشأن في ذلك كما قال الله عز وجل عن عباده المحسنين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (الأحقاف: 16)
نقلا عن المساء
No comments:
Post a Comment